مكتبة السيد المرعشي ــ ذاكرة الورق وحنين الروح
في كل مدينة هناك زاوية تحفظ أنفاس ساكنيها؛ إلا في مدننا المقدسة فهناك مكتبات تحفظ أنفاس القرون بين أوراقها.
دخلت قبل أيام إلى مكتبة آية الله العظمى السيد شهاب الدين المرعشي النجفي (ره) الكائنة في شارع إرم في مدينة قم المقدسة بالقرب من مرقد السيدة فاطمة المعصومة عليها السلام، وفجأة توقفت، واستنشقت الهواء المتلفع بصفحات الكتب القديمة. يا الله… لرائحة الكتاب القديم! شعور لا يوصف، وإحساس لا يُضاهى.
أشعر أن الحنين إلى الكتاب القديم يشبه إلى حد ما الحنين إلى الوطن (Homesickness) أو الحنين إلى الماضي (Nostalgia). فرائحة الكتاب القديم تُخبرنا عن أجيال مرّوا من هنا وتركوا لنا أثراً بعد أثر. وتُخبرنا بأن البقاء ليس للأقوى، بل للفكرة، لأنها لا تموت. وتخبرنا أيضاً أن أريج الحاضر مرتبط بعبق الماضي، ومن لم يكن له ماض جميل قد لا يُوفق في حاضره.
وقوفي على أعتاب مكتبة آية الله السيد شهاب الدين المرعشي (ره) ارجعني إلى أول مرة زرتها في عام ٢٠٠٣م، حيث استحضرت وصية مؤسسها (ره) بأن يُدفن جثمانه عند بابها حباً بالعلم وإجلالاً للكتاب.
وتذكرت أول مرة استنشقت هواءها العذب المشفع برائحة الكتاب القديم. واستذكرت وقتذاك ما كنت قد استنشقته في النجف الأشرف عند مكتبة أمير المؤمنين (عليه السلام) للعلامة الأميني (ره)، ومكتبة الإمام الحكيم (ره)، ومكتبة الإمام كاشف الغطاء (ره)؛ والأخيرة كنت أقضي معظم وقتي فيها برفقة أخي وعزيزي العلامة المحقق سماحة الشيخ أمير كاشف الغطاء (دامت بركاته).
واليوم، وبعد ثلاثين سنة من أول رائحة كتاب قديم أغرمت به، وبعد مرور اثنتين وعشرين سنة على زيارتي الأولى لقم المقدسة وجدتني أتجول في سنوات عمري الماضية لأكتشف أن تعلقي بالكتاب العتيق في تزايد مستمر وسط هذا العالم الرحب.
ولعل حبي للكتاب عموما، وللكتاب العتيق خصوصا، نابعٌ من توقٍ إلى الخلود، فبعض الكتب خُلّدت لأنها جديرة بأن تُقرأ، فكما يقول الشاعر والكاتب الروسي جوزيف برودسكي (1940 – 1996)، والحائز على جائزة نوبل للآداب سنة ١٩٨٧:《الكتب بشكل عام أكثر خلوداً منا. فحتى أسوأ الكتب تخلد مؤلفيها، لسبب رئيسي وهو أن الكتب تحتل مساحة حسية أصغر ممن كتبها》نعم فالإنسان بعمله وعائلته وعلاقاته أكثر ضجيجا حسيّاً من كتابٍ موضوع على الرف، وكل أهله وعائلته لا يمكنهم تخليد ذكراه كما يفعل الكتاب.
كما أن حب الكتب والقراءة ليس ترفاً وقتياً أو عادة مكتسبة بل هو جزء أصيل من ثقافتنا الإسلامية، فتراثنا الشيعي مليء بالحثّ والتحفيز على الاهتمام بالكتب. فقد ورد عن الإمام الحسن المجتبى علیه السلام أنّه دعا بنيه وبني أخيه فقال: إنَّكُمْ صِغَارُ قَوْمٍ وَيُوشِكُ أَنْ تَكُونُوا كِبَارَ قَوْمٍ آخَرِينَ، فَتَعَلَّمُوا العِلْمَ! فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ أَنْ يَحْفَظَهُ فَلْيَكْتُبْهُ وَلْيَضَعْهُ فِي بَيْتِهِ.
وكذلك ما ورد عن الإمام الصادق علیه السلام للمفضَّل بن عمر: اكْتُبْ وَبُثَّ عِلْمَكَ فِي إخْوَانِكَ، فَإنْ مُتَّ فَأَوْرِثْ كُتُبَكَ بَنِيكَ، فَإنَّهُ يَأْتِي عَلَی النَّاسِ زَمَانٌ هَرْجٌ لاَ يَأْنَسُونَ فِيهِ إلاَّ بِكُتُبِهِمْ!
فجدير بأبناء وطننا العراق أن يكونوا قدوة لغيرهم في القراءة والتعليم والتعلم، لأن الحرف انبثق من أرضهم، وما زالت ذاكرة الطين تحتفظ بما خطه الإنسان منذ آلاف السنين.
أسأل من الله جلّ جلاله أن ينير بصيرة شبابنا للقراءة النافعة، وأن يصرفوا أعمارهم بين التعلم والتعليم فوالله الذي لا إله غيره، لن ينفع الإنسان شيئاً بعد معرفة الله تعالى والإيمان بنبيه وأهل بيته (صلوات الله وسلامه عليهم) مثل العلم.
جعلنا الله وإياكم من طلبة العلم وناشريه بحق محمد وآله الطاهرين
كاظم الخرسان
النجف الأشرف
- سيعجبك أيضاً

